-A +A
عادل بترجي
جلست أحدث صديقي حسن، الراقد على فراش الإصابة في المستشفى، في الحقيقة كان يحدثني، وكنت أستمع إليه ناظرا إلى تقاطيع وجهه الأسمر، وقد أنهكت جسده النحيل المسجى في مكانه ــ منذ عدة أسابيع ــ سنون من الألم، والسهر، والمعاناة. راحت ذاكرتي تسترجع ذكريات معرفتي بحسن؛ عرفته وزوجته عفاف منذ ما يزيد على عشرين سنة ــ وأقول سنة لا عاما؛ لكونها سنوات صعبة ــ عندما كنت أجوب بعض جوانب بلاد المسلمين مجتهدا في التخفيف من آلامهم، ساعيا لرعاية أبنائهم، وتعليمهم، وتطبيبهم. عرفت حسن بالحال التي هو عليها الآن: مشلولا في النصف السفلي من جسمه؛ نتيجة طلقة في ظهره مجاهدا في جنوب السودان، شلته تلك الرصاصة، مع أنه قبلها بعدة أشهر، قدر له الخلاص من كمين وقع فيه وحيدا، وقد أحاط به عدد من الجنوبيين المسلحين، حينها نظر حسن حوله وفكر، إما المقاومة والشهادة، أو الاستسلام والأسر، فاختار المقاومة والشهادة إن كتبت، فبدأ يطلق من سلاحه الخفيف يمنة ويسرة فسقط البعض، ولاذ بالفرار الآخرون، ولم يصب هو بشيء، ولكن قدره أن تقعده رصاصة واحدة أصابته في معركة أخرى؛ وهذا شأن الإنسان يمضي من قدر إلى قدر.
ومع عجزه البدني وألمه الذي لا يتوقف تتزوجه فتاة لو أرادت، بما وهبها الله من نسب ورجاحة عقل وصباحة وجه، أن تتزوج خيرة شباب وطنها لظفرت بما أرادت، ولكنها آثرت حسن المجاهد؛ لكي تتفانى في خدمته ــ وإني لأشهد أنها قد فعلت ــ حتى أقعدتها هي الأخرى حادثة شلل رباعي، فأصبحت في حاجة من يعتني بها ويرعاها. ولكي تكتمل دائرة الابتلاء يضطران للافتراق؛ فكلاهما محتاج إلى رفيق معافى يرعى شؤونه.

هل أقعد حسن وعفاف الشلل والألم والمعاناة؟ أبدا، فهما ماضيان كل في طريق، مثالا للشباب المجاهد يجوبان أرجاء بلدهما، وبلدان أخرى في صبر على الألم منقطع النظير، واستسلام لقضاء الله وقدره لم أصادف مثله أبدا ــ وقد رأيت الكثير من أمثالهما ــ ودرسا للأصحاء الذين يتذمرون ويسخطون، إذا ما افتقدوا بعض وسائل الراحة الكمالية.
يقول الفيروز آبادي: مراتب الصبر خمس: صابر، ومصطبر، ومتصبر، وصبور، وصبار. فالصابر أعمها، والمصطبر هو المكتسب للصبر المبتلى به، والمتصبر: متكلف الصبر حامل نفسه عليه، والصبور هو عظيم الصبر الذي صبره أشد من صبر غيره في الوصف والكيف، والصبار: شديد الصبر في القدر والكم. وقال ابن القيم في أنواع الصبر: الصبر متعلقه ثلاثة أقسام: صبر الأوامر والطاعات حتى يؤديها، وصبر عن المناهي والمخالفات حتى لا يقع فيها، وصبر على الأقدار والأقضية حتى لا يتسخطها.
والصبر مهم لأمور الدين والدنيا، ذكره الله ــ سبحانه ــ في القرآن في أكثر من تسعين موضعا، وقرنه بالصلاة في بعض هذه المواقع. والصبر على الابتلاء منزلة عظيمة لا ينالها إلا من وهب قلبا يصابر على البلوى؛ وقد قيل: اصبروا بنفوسكم على طاعة الله، وصابروا بقلوبكم على البلوى في الله. والابتلاء في الأصل هو التكليف بالأمر الشاق، وقال بعض الباحثين المحدثين: الابتلاء هو المظهر العملي لعلاقة العبودية بين الله والإنسان، ومعنى هذه العلاقة كمال الطاعة لكمال المحبة؛ فمن أحبه الله ابتلاه.
كل تلك المعاني العميقة للصبر والمصابرة استرجعتها وأنا أنظر إلى حسن، وهو يحدثني عن تلك الأيام الخوالي والابتسامة لا تفارق شفتيه، وأنا أعلم أنه لم يغمض له جفن منذ ثلاثة أيام من شدة الألم، وكأن ذكرى الجهاد والشهداء والشوق إلى الجنة ينسيانه ألم الجسد وإرهاق الأرق. لله درك يا حسن! كم أجد عندك من الصبر والمثل ما لا أجدها عند غيرك، وكم أحببتك لذلك.